يشعر الموظفون في عصرنا هذا بالوحدة أكثر من أيِّ وقت مضى، مما أدى إلى نشوء قوة عاملة غير مشاركة وغير ملتزمة بالعمل ومُخيِّبة للأمل. سنستعرض لكم في مقالنا هذا أسباب الشعور بالوحدة وضرورة التخلص منه.
لستَ الوحيد الذي ينتابه الشعور بالوحدة، فقد أفاد 61% من الراشدين الأمريكيين أنَّهم يشعرون بالوحدة، بزيادة قدرها 7% منذ عام 2018، إضافة إلى ذلك، لم يَعُد الناس يكوِّنون صداقاتٍ في العمل كما في السابق، وفي عام 1985، أفاد نصف سكان أمريكا أنَّ لديهم صديقاً مقرباً في العمل، وبحلول عام 2004، تناقص العدد إلى الثلث.
من بين موظفي الجيل زد الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و22 عاماً، أفاد 73% منهم بأنَّهم يشعرون بالوحدة في بعض الأحيان أو دائماً، وبزيادة قدرها 4% منذ عام 2019، فإنَّ الجيل القادم الذي يدخل سوق العمل هو الجيل الأكثر وحدةً من أيِّ جيل آخر، مما يزيد المخاوف من ارتباط ذلك بالمشكلات الصحية. صرَّح "فيفيك مورثي" (Vivek Murthy) الجراح العام السابق في الولايات المتحدة، أنَّ الوحدة يمكِن أن تُقصِّر عُمر المرء بمقدار 15 عاماً؛ أي ما يعادل تدخين 15 سيجارة يومياً أو الإصابة بالبدانة.
تُسبب أشكال الوحدة أيضاً مشكلةً في مشاركة الموظفين والاحتفاظ بهم، حيث تركَ نصف جيل الألفية و75% من جيل زد وظائفهم لأسباب تتعلق بالصحة النفسية مقارنةً بـ 34% من الأجيال الأخرى.
الأسباب الحديثة للشعور بالوحدة:
تعني الوحدة انعدام العلاقات، ولكن قد يشعر الشخص المحاط بالناس بالوحدة أيضاً، فلم يكن أحد يتوقع أن يتسبب عالم مترابط كعالمنا بشعور الكثير من الأشخاص بالانفصال، لكنَّه واقعنا الجديد.
فيما يلي بعض الأسباب التي تجعل البشر يشعرون بالوحدة أكثر من أي وقت مضى:
- العمل المتطلب: يميل الموظفون في يومنا هذا إلى عدم إعطاء أولوية كبيرة للعلاقات في العمل والتركيز بدلاً من ذلك على الإنتاجية والاحترافية.
- تحوُّل الاعتماد: لم تَعُد المعلومات محصورةً بأفراد الأسرة أو الجيران أو زملاء العمل؛ بل أصبحَت منتشرةً بصورة غير مسبوقة، وتُمكِّن كل فرد من الحصول على المعرفة والمساعدة عبر الإنترنت.
- التنقل: أدى المزيد من التنقل في مكان عملنا وزمانه وطرائقه إلى جعل الناس يعيرون اهتماماً أقل بعلاقاتهم في العمل وفي مجتمعهم.
- التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي: يمكِن للتكنولوجيا أن تُقلِّل من التفاعلات البشرية الحقيقية والفعَّالة بسبب التشتيت الذي تُحدثه أو عدم وصول الرسالة واضحة كما لو كان الشخص يُجري حواراً وجهاً لوجه، ومن المرجح جداً أن يشعر المدمنون على وسائل التواصل الاجتماعي بالوحدة والعزلة والإهمال والافتقار إلى الصحبة.
- التوازن بين العمل والحياة: إن كانت الروابط الهامة محصورةً فقط خارج العمل، فإنَّ ثقافة العمل الدائم اليوم لا تترك سوى القليل من الوقت أو ربما لا تترك وقتاً أبداً لتمتين الروابط الهامة وتنميتها.
- الاستعجال: جعلَت الثقافة القائمة على زيادة الطلب اليوم العديد من الأشخاص يختارون العلاقات الرقمية السريعة للتعاملات بدلاً من الصبر على الاستثمار في العلاقات طويلة الأمد.
إقرأ أيضاً: كيف تحقق التوازن بين العمل وحياتك الشخصية؟
تأثير الوحدة في العمل:
يقول "ديفيد م. كورداني" (David M. Cordani) الرئيس والمدير التنفيذي لشركة التأمين وإدارة للرعاية الصحية "سيغنا" (Cigna): "التوجهات التي تُقولب طريقة عملنا مثل: زيادة استخدام التكنولوجيا والمزيد من العمل عن بعد وثقافة العمل الدائم، تجعل الأمريكيين أكثر توتراً وأقل راحةً ويقضون المزيد من الوقت على وسائل التواصل الاجتماعي، ويمضون وقتاً أقل مع الأصدقاء والعائلة، فبالنسبة إلى مجتمع الأعمال، يؤدي ذلك إلى التقليل من المشاركة وخفض الإنتاجية وزيادة دوران العمالة".
يكون العمال الذين يشعرون بالوحدة:
- أكثر عُرضةً بضعفين للتغيب عن العمل بسبب المرض.
- أكثر عُرضةً بخمسة أضعاف للتغيب عن العمل بسبب الإجهاد.
- أكثر ميلاً بضعفين للتفكير في ترك وظيفتهم.
- يميلون أكثر إلى الاعتقاد بأنَّ جودة عملهم أقل بنسبة 12%.
- من المرجح أن يكونوا يعملون عن بُعْد.
كي توجِد المؤسساتُ قوةً عاملةً أكثر تفاعلاً وإنتاجيةً وولاءً، يجب أن تكون على دراية بشعور الموظفين بالوحدة، ونظراً لأنَّ العمل بيئة أساسية للأشخاص لخلق الانتماء، فإنَّ لدى المؤسسات والقادة فرصة لا تُعوَّض لإشعار الموظفين بإحساس أكبر بالقبول والدعم والاندماج.
الوحدة من وجهة نظر العلم:
نحن البشر مخلوقات اجتماعية بطبعنا، ولدينا رغبة عميقة في أن يقبلنا الآخرون وأن نحصل على الرعاية ونشارك في مجتمع هادف، فكانت هذه الرغبات ولا تزال ضروريةً لاستمراريتنا؛ إذ جاب أسلافنا السهول وعاشوا في قبائل، حيث أدى الانفصال عن القبيلة إلى جعل البقاء على قيد الحياة أمراً مستحيلاً.
هذا ما يفسر سبب تسبُّب الوحدة في حالة ضغوط نفسية لدى البشر، يقول "مورثي" (Murthy): "عندما نشعر بالوحدة لفترة طويلة من الزمن، يتحول ذلك إلى حالة توتُّر مزمنة تزيد من احتمال الإصابة بالأمراض وتلف الأوعية الدموية والأنسجة، وغيرها من الأزمات الصحية الأخرى.
إضافةً إلى ذلك وخلال التجارب الأخيرة، اكتشفَ علماء الأعصاب مؤخراً أنَّ الأشخاص الذين خضعوا لتجربة الاستبعاد، قد أظهرَت أدمغتهم النشاط في الأجزاء نفسها التي نشطَت عند شعورهم بالألم الجسدي؛ لذلك يصيب الشخص المستبعَد شعوراً مشابهاً من الناحية البيولوجية للتعرض للضرب الجسدي، ويكون الألم والأذى النفسي نفسه حتى لو كان الاستبعاد من مجموعة لا يحترمها هذا الشخص المستبعَد.
أهمية المشاركة في العمل:
إنَّ ما يدفعنا في كثير من الأحيان إلى الانفصال والعزلة والاستبعاد ليس الاختلاف؛ بل المسافة. في الواقع، البشر مجبولون على ثلاث: البقاء على قيد الحياة والانتماء والتحول. هذه العناصر هي الدوافع الكامنة التي تدير الحياة العملية والشخصية للجميع.
ومع ذلك، يمكِن للبشر أن يكونوا بعيدين، فنحن نضع المسافات عندما يكون رأي شخص آخر أو وجهة نظره أو سلوكه غير معروف أو غير مألوف، إلا أنَّ التفاهم والتعاطف ينمو مع التقارب، يقول الرئيس الأمريكي الراحل والحكيم "أبراهام لنكولن" (Abraham Lincoln): "أنا لا أحب ذلك الرجل؛ لذا يجب أن أتعرَّف إليه أكثر".
الانشغال وعوامل التشتيت والعداء وعدم النضج والجهل والخوف والأنانية، هذه جميعها عوامل تساهم في تعظيم المسافة بين الناس، وإذا كان الهدف هو تقليل الشعور بالوحدة وزيادة الاندماج، فتفاعَل مع الآخرين وحاوِل التخلص من المسافة التي تفصلك عنهم.
ينبع الشعور القوي بالانتماء من الرغبة البشرية في الاستفادة من مَواطن القوة أو الميزات أو المواهب لتقديم مساهمة يُقدِّرها الفريق، حيث تُقلل الحاجة من خطر الاستبعاد الاجتماعي، وفي النهاية تمنح الناس الحرية للقيام بعملهم على أتم وجه.