من السهل أن تتحمس، وتُظهر ردة فعل لأي أمر تصادفه في بحر هذه الحياة التي نعيشها؛ أي أن تستجيب لكل ما تجده لحظة ظهوره، وأن تمنحه اهتمامك الكامل ريثما تجد أمراً آخر.
إنَّ هذا السلوك بالطبع ضربٌ من الجنون؛ فالشعور بفقدان السيطرة على المهام التي تؤديها ومواعيد أدائها وحده كفيل بأن يفقدك صوابك، وحتى وإن لم ينل ذلك منك، فإنَّ أطلال المشاريع غير المكتملة التي تتركها في أعقابك ستطاردك بالتأكيد.
يمكن أن يساعدك إنشاء جدول، واستخدامه بطريقة منهجية على استعادة بعض من تلك السيطرة، ولكن بمجرد الانتهاء من إعداد جدولك، وإدراج جميع المهام التي تحتاج إلى الشروع بها، لا يزال يتعين عليك تحديد ما عليك أن تبدأ به فور انتهائك؛ إذ أيٌّ من هذه المهام تستحق وقتك أولاً؟ وأي منها يمكن تأجيله؟
عندما لا نحدد أولوياتنا، فإنَّنا نميل إلى اتباع المسار الأسهل والأسرع؛ أي أنَّنا سنختار، ونرتِّب الأمور التي يجب علينا إنجازها، ونبدأ بأسهلها، ونترك المهام الأكثر صعوبةً والأقل متعةً لـ"وقت لاحق" قد لا يأتي أبداً في كثير من الحالات، أو الأسوأ من ذلك، أن يأتي قبل انتهاء موعد إنجازها بوقت قصير، مما يُلقي بنا في دوامة من العمل الدؤوب، والتوتر، والندم؛ وهنا تكمن أهمية تحديد الأولويات.
3 أساليب فعالة لتحديد الأولويات:
ثمة ثلاثة أساليب أساسية لتحديد الأولويات، وقد يناسب كل منها أنماطاً مختلفةً من الشخصيات؛ فالأسلوب الأول يفيد المسوِّفين، وهم الأشخاص الذين يؤجلون المهام الشاقة، وأما الأسلوب الثاني فهو خاص بأولئك الذين يتقنون تحقيق الإنجازات، والذين يحتاجون إلى سلسلة من الانتصارات الصغيرة ليتمكنوا من تجاوز اليوم، ويتعلق آخر أسلوب بالأشخاص الذين يتمتعون بشخصية تحليلية، والذين يجب عليهم التأكد بشكلٍ موضوعي من أنَّهم يؤدُّون أكثر المهام أهميةً في تلك اللحظة؛ لذا، دعنا نلقي نظرةً على هذه الأساليب الثلاثة بالترتيب الذي ذكرناه:
1. ابدأ بالأهم ولو كان صعباً:
يستفتح المؤلف برايان تريسي (Brian Tracy) كتابه الشهير "التهم هذا الضفدع" (Eat That Frog) بقوله: "يُقال على مر السنين أنَّه إذا كان أول شيء تفعله كل صباح هو أكل ضفدع حي، فإنَّك ستكون راضياً طوال اليوم؛ ذلك لأنَّك تعرف أنَّ هذا سيكون أسوأ شيء يحدث لك طيلة النهار"، بعبارة أخرى، سيتحسن يومك للأفضل بالتأكيد.
إنَّ الفكرة هنا هي أنَّه يجب عليك أن تتعامل مع المهمة الأكبر والأهم والأصعب حتى تمضي قدماً في يومك وأنت تعلم أنَّ الأسوأ قد مر بالفعل.
فعندما يكون أمامك "ضفدع عجوز سمين" على طبقك؛ أي بمعنى أنَّه إذا كانت لديك مهمةٌ هامةٌ وعسيرة، فيجب عليك أن تبدأ بها مباشرةً، وتستمر حتى تنهيها، بالإضافة إلى أنَّه حينما يتعين عليك إنجاز مهمة ما، لا تنتظر وقتاً طويلاً حتى تبدأ العمل عليها؛ إذ يجب عليك أن تضع هذا الأمر في بالك إذا كنت من النوع الذي يؤجِّل إنجاز مهامه لوقت طويل بحجة "التخطيط للعمل"، و"التهيؤ نفسياً"، فكل ما عليك فعله هو أن تضبط نفسك، وتبدأ بالعمل فوراً، وإلا فثمة احتمال كبير بأنَّك ستقنع نفسك بالعدول عن فعل أي شيء على الإطلاق.
2. أنجِز المهام العسيرة:
قد لا تكون مسوفاً بقدر ما تكون شخصاً يتلكأ بالعمل، ويضيِّع وقته بالاهتمام بالمهام الصغيرة، إنَّك دائم الانشغال، ولكن بطريقة ما، لا يبدو أنَّك تنجز أي شيء هام أبداً.
دعنا نوضِّح الأمر من خلال التشبيه الآتي: خذ إناءً واملأه بالرمل، وحاول بعدها وضع بعض الصخور بداخله، لن تتمكن من فعل ذلك، أليس كذلك؟ فلن يكون هناك متَّسعٌ لها.
إذا كانت الصخور هامةٌ للغاية، فعليك أن تضعها في الإناء أولاً، ثم حاول إضافة بعض الحصى، وراقِب كيف ستتدحرج لتملئ المساحة المتاحة، وأخيراً، أضِف بعضاً من الرمل.
يرمز الإناء إلى الوقت الذي تمتلكه خلال يوم واحد؛ إذ يمكنك أن تشغل نفسك بمهام صغيرة لا معنى لها، دون أن تترك متسعاً من الوقت لإنجاز أي شي هام، أو يمكنك أن تبدأ بالمهام الكبيرة أولاً، ثم تنتقل إلى الواجبات الصغيرة، لتملأ في النهاية وقت الفراغ المتوفر لديك بالأشياء التي ليس لها فائدة.
جرِّب أن تطبِّق هذا الأمر اليوم: اجلس الليلة قبل الذهاب للنوم، واكتب أهم ثلاث مهام يجب عليك إنجازها غداً، لا تحاول أن تُدرِج كل ما عليك فعله، أو تعتقد أنَّه يجب عليك ذلك؛ بل أهم ثلاثة واجبات فحسب.
وفي صباح اليوم التالي، باشِر العمل على أول "صخرة كبيرة"، أو مهمة مُدرَجةٍ على قائمتك، ولا تتوقف حتى تنجزها، وإلا لن تتمكن من إحراز أي تقدم آخر؛ ثم انتقِل إلى المهمة الثانية، ثم الثالثة، بمجرد الانتهاء منها جميعاً، يمكنك البدء بإنجاز المهام الأقل أهمية، مع العلم أنَّك أحرزت تقدماً جيداً في الهامة منها، وحتى وإن لم تتمكن من إنجاز المهام البسيطة، ستشعر بالرضا؛ لأنَّك تعلم أنَّك أنجزت ثلاثة مهام كبيرة.
ففي نهاية المطاف، لا أحد يتمنى أن يقضي وقتاً طويلاً في ترتيب أدراجه، بدلاً من كتابة روايته مثلاً، أو طباعة ملصقات بريدية بدلاً من الحصول على عميل هام.
3. مربعات ستيفن كوفي (Stephen Covey):
إذا كنت لا تستطيع أن تنعم بالراحة حتى تتأكد من أنَّك تعمل على أهم مهمة عليك إنجازها في كل مرة، فسيكون نظام المربعات الذي ابتكره الكاتب ستيفن كوفي (Stephen Covey) في كتابه العادات السبع للناس الأكثر فعالية: دروس فعالة في التغيير الشخصي (The 7 Habits of Highly Effective People: Powerful Lessons in Personal Change) مفيداً لك للغاية.
يقترح كوفي (Covey) أن تقسِّم قطعةً من الورق إلى أربعة أقسام يفصِل بينها خطان متقاطعان، ثم تُدرِج مهامك في كل مربع منها وفق المعايير الآتية:
- مهام هامة ومستعجلة.
- مهام هامة ولكن غير مستعجلة.
- مهام غير هامة ولكن مستعجلة.
- مهام غير هامة وغير مستعجلة.
يضمُّ المربع الثالث والرابع الأمور التافهة التي تستنزف وقتنا، كالمكالمات الهاتفية، والمقاطعات، والاجتماعات التي تنتمي إلى المربع الثالث، والعمل المزدحم، وتجاذب أطراف الحديث، وغير ذلك من الأمور التي تضيع وقتنا، والتي تنتمي إلى المربع الرابع، ومع أنَّ بعض هذه الأمور قد يكون لها قيمة اجتماعية، ولكن يجب عليك أن تتخلص منها إذا كانت تتعارض مع قدرتك على إنجاز المهام التي تهمك.
وأما المربع الأول والثاني، فيضمان المهام التي تهمنا؛ حيث تندرج الأزمات، والمواعيد النهائية الوشيكة، والأعمال الأخرى التي يجب القيام بها الآن والتي يؤدي الامتناع عن ذلك إلى نتائج مروعة ضمن المربع الأول.
إذا كنت تتقن إدارة وقتك، فيمكنك تقليل المهام الموجودة ضمن المربع الأول إلى الحد الأدنى، ولكن لا يمكنك التخلص منها نهائياً؛ فتعرض شخص ما لحادث سيارة أو لمرض ما، أو حدوث كارثة طبيعية، جميعها حالات تتطلب اتخاذ إجراءات فورية، ونادراً ما يُخطَّط لها.
يجب عليك قضاء أكبر قدر ممكن من الوقت في إنجاز المهام الموجودة ضمن المربع الأول، وإنهاء المهام الهامة مع توفير متسع من الوقت للانغماس فيها حقاً، وتحقيق أفضل عمل ممكن، هذه هي الواجبات التي تلهينا الأمور المُدرَجة ضمن المربع الثالث والرابع عن إنجازها؛ لذا، بعد أن أدرجتَ مهامك على شبكة المربعات الخاصة بكوفي (Covey) -وفقاً لما تعتقد أنَّه يهمك وما لا يهمك- اعمل بقدر ما تستطيع على إنجاز المهام الموجودة في الربع الثاني (ومهام المربع الأول عند ظهورها).
اكتشاف الأسلوب المناسب لشخصيتك:
اقضِ بعض الوقت في تجربة كل من هذه الأساليب لتكتشف ما يناسبك، من الصعب تحديد الأسلوب الذي ينجح بشكل أفضل لأي شخص معين؛ فما يناسب شخصاً ما تماماً، سيكون ملزِماً للغاية بالنسبة لآخر، ومشتِّتاً وغير منظم بالنسبة لشخص ثالث، كما يجب عليك قضاء بعض الوقت في اكتشاف ما يجعل أمراً ما هاماً بالنسبة لك، وما هي الأهداف التي تقود أفعالك نحوها.
وفي النهاية، يُعدُّ تحديد الأولويات بمنزلة تمرين لمعرفة ذاتك؛ إذ عليك أن تعرف المهام التي تستمتع بإنجازها، أو تعاني منها، والمهام التي تقودك نحو تحقيق أهدافك، وتلك التي تضلِّلك، أو تضيِّع وقتك لتراوح مكانك في أحسن الأحوال.