العمل دون مكتب أو العمل من المنزل أو العمل عبر الإنترنت أو العمل عن بُعد؛ مهما اختلفت أسماؤه، فهو بالتأكيد في حالة ازدياد؛ وبالنسبة إلى الموظفين اليوم، فغالباً ما يُنظَر إلى العمل على أنَّه نشاط وليس مكاناً، وتسعى الشركات بكافة أحجامها وأنواعها إلى استيعاب فكرة العمل عن بُعد خوفاً من أن تصبح غير قادرة على المنافسة، وبالنسبة إلى بعض الشركات، كان هذا الأسلوب ناجحاً كثيراً، ممَّا أدى إلى زيادة الإنتاجية والروح المعنوية والاحتفاظ بالموظفين مع تقليل التكاليف. أما بالنسبة إلى الأشخاص الآخرين، فإنَّ القصة مختلفة تماماً.
المواقف العامة إزاء فكرة العمل عن بُعد:
لقد أدت ثورة التكنولوجيا إلى تغيير مكان العمل؛ بحيث يعمل أسلوب التخزين السحابي والتطبيقات والأجهزة الذكية وبرامج الاتصال عبر شبكة الإنترنت على تعزيز فكرة العمل الافتراضي. في الوقت نفسه، تتغير المواقف العالمية إزاء العمل.
تشهد معظم الدراسات حدوث تغيُّر في الأولويات؛ على سبيل المثال: يشير تقرير شركة برايس ووتر هاوس كوبرز (PricewaterhouseCoopers) الشامل عن نظام النقل الجوي للجيل التالي (NextGen)، الذي نُشِرَ في عام 2013 إلى ما يلي: "يطمح الموظفون اليوم إلى الحصول على نموذج جديد لمكان العمل يضع أولوية أعلى لتحقيق التوازن بين العمل والحياة والمرونة في العمل". بالنسبة إلى الكثيرين، لاحظت الدراسة أنَّ "العمل هو "شيء" وليس "مكان".
استناداً إلى هذه المواقف، تبتعد معظم المنظمات عن العمل التقليدي في أماكن محددة، وتتيح العمل من المنزل. وقد وجد بحث أجرته مؤسسة جالوب (Gallup) أنَّه في السنوات العشرين الماضية من (1995-2015)، ارتفعت النسبة المئوية للقوى العاملة الأمريكية التي حاولت العمل عن بُعد من (9٪ إلى 37٪)، وأعلن تقرير الجودة للعمل عن بُعد لعام 2012 أنَّ النسبة المئوية لأرباب العمل الأمريكيين الذين يسمحون لموظفيهم بالعمل عن بُعد قد تضاعف تقريباً من (34٪ إلى 63٪) خلال سبع سنوات حتى عام 2012. مع ذلك، لا تمثل هذه الأرقام سوى نسبة قليلة من تقبُّل فكرة العمل عن بُعد؛ فمتوسط عدد أيام العمل من المنزل - في استطلاع لشركة جالوب - لا يزيد عن يومين شهرياً، كما وجد استطلاع الجودة أنَّ ثلث أرباب العمل فقط سمحوا لبعض الموظفين بالعمل عن بُعد بانتظام.
ومع ذلك، تؤيد بعض المنظمات فكرة العمل عن بُعد بصورة كاملة، وهذا العدد في ازدياد. على مدى السنوات الثلاث الماضية، أعدَّ موقع التوظيف الإلكتروني فليكس جوبز (FlexJobs) قائمة بالمنظمات التي تسمح لمعظم أو جميع موظفيها بالعمل من المنزل بصورة كاملة، وقد ازدادت القائمة من ستٍّ وعشرين شركة في عام 2014 إلى مئة وخمسٍ وعشرين شركة في عام 2016، وتشمل هذه المنظمات مجموعة من الصناعات (من التسويق إلى الشركات غير الربحية)، في حين تمثل الشركات في قطاعات الموارد البشرية والتكنولوجيا والتعليم الفئة الأكبر.
وضع فكرة العمل عن بُعد موضع التنفيذ:
تُعد شركة أوتوماتيك (Automattic)، شركة تطوير الويب التي أنشأت نظام ووردبريس (WordPress)، مثالاً رائعاً على طريقة عمل القوى العاملة الموزعة بالكامل. وتوظف شركة أوتوماتيك خمسمئة وثمانية وأربعين عاملاً عن بُعد من ثلاث وخمسين دولةً يتحدثون ستّاً وسبعين لغةً، ومن الواضح أنَّ أسلوبها غير المكتبي ينجح؛ حيث قُدِّرت تكاليف الشركة بحوالي 1.16 مليار دولاراً أمريكياً في عام 2014. تشتهر شركة برايس ووتر هاوس كوبرز أيضاً بتقديم فرص عالمية للعمل عن بُعد، من بين سياسات العمل المرنة الأخرى التي تشمل تقاسم العمل وساعات العمل المرنة وإعارة الموظفين.
كما تجرب معظم الشركات الأخرى العمل عن بُعد دون الذهاب إلى مكتب. على سبيل المثال: تشجع شركة جيت هب (Github) بفاعلية موظفيها البالغ عددهم أربعمئة موظف أو أكثر على العمل متى وأينما أرادوا، لكنَّها تحتفظ بمقرها الرئيسي في سان فرانسيسكو (San Francisco) للإدارة العليا وأي فريق آخر يرغب في العمل في المكاتب، كما تمتلك شركة جيت هب عدداً قليلاً من المكاتب الصغيرة ومساحات العمل المشتركة في جميع أنحاء العالم، ممَّا يوفر مساحة فعلية للفِرق لتعمل معاً.
قد يكون الإقبال على العمل عن بُعد في الإمارات العربية المتحدة (UAE) أبطأ ممَّا هو عليه في الولايات المتحدة (US) وأوروبا (Europe)، ولكن العمل بدون مكاتب يحقق نجاحاً. أظهر استطلاع للرأي شمل عشرة آلاف موظف من الشرق الأوسط (Middle East) حسب موقع العمل "بيت.كوم" (Bayt.com)، أنَّ 47٪ عملوا في مؤسسة تدعم العمل عن بُعد بفاعلية، واعتبر 72٪ من المشاركين أنَّ العمل من المنزل مفيد لكل من رب العمل والموظف.
بحسب دراسة فكرة العمل عن بُعد في الإمارات العربية المتحدة، فإنَّ تفضيل العمل عن بُعد بدوام كامل كان سائداً بين النساء المتزوجات، بينما يميل الرجال إلى العمل عن بُعد بدوام جزئي. ومع ذلك، فإنَّ الفكرة الأساسية هي أنَّ 33.1٪ فقط من جميع المشاركين يفضلون عدم العمل عن بُعد أبداً.
العمل دون مكتب ودروس على رواد الأعمال التعلم منها:
من الواضح أنَّ العمل عن بُعد له بعض الفوائد. منذ عام 1998، نشرت مجلة علم نفس الموظفين (Personnel Psychology) دراسة تكشف تأثير العمل عن بُعد في المكاتب الافتراضية مقابل العمل التقليدي. وقد خلُصَت الدراسة إلى أنَّ المكاتب الافتراضية يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي في الإنتاجية والروح المعنوية وتحقيق التوازن بين العمل والحياة والمرونة، مع الحد من النفقات والتكاليف؛ وقد تردد صدى هذا الأمر منذ ذلك الحين. في عام 2014، نشرت مجلة هارفارد بزنس ريفيو (Harvard Business Review) دراسة أجراها موقع السفر سي تريب (Ctrip)، والتي طبقت فكرة العمل من المنزل على نصف العاملين في مركز الاتصال لمدة تسعة أشهر.
عبر اختبار الفرضية القائلة أنَّ الشركة سوف توفر ما يكفي من المال على النفقات العامة، لتتجاوز الانخفاض المتوقع في الإنتاجية، وجدت شركة سي تريب أنَّ العاملين من المنزل زادوا الإنتاجية بنسبة 13.5٪ فعلياً، وانخفض معدل الاستنزاف (attrition rate) إلى نصف معدل العاملين في المكاتب التقليدية أيضاً، وذكروا بأنَّه يوجد زيادات كبيرة في الرضا الوظيفي، كما ذكرت سي تريب أيضاً بأنَّها ستوفر ما يقارب الألفَي دولار أمريكي لكل موظف عن طريق هذه التجربة.
يمكن أن يجذب تبنِّي الشركات لفكرة العمل عن بُعد أصحاب المواهب؛ إذ يرتبط معدل النمو الاستثنائي بوجود موظفين استثنائيين، لكنَّ العثور على هؤلاء الموظفين المميزين يمثل تحدياً يعرفه جميع رواد الأعمال؛ حيث يتيح العمل عن بُعد فرصة لجذب العمال الموهوبين عن بُعد، وهم موظفون استثنائيون محتملون غير قادرين أو راغبين في الانتقال للعمل في المكاتب.
في تقرير نُشِرَ على موقع لينكد إن عن توجهات التوظيف العالمية لعام 2017 (LinkedIn Global Recruiting Trends 2017 Report)، ذكرت 57٪ من الشركات المشاركة أنَّ المنافسة على المواهب تُعد من أكبر التحديات بالنسبة إليها. لذلك، فإنَّ توسيع مجموعة المواهب هو فكرة جيدة. في الحقيقة، قد يؤكد الكثيرون أنَّ هذه هي الفكرة الأساسية التي تقود نجاح الأعمال التجارية اليوم. يؤدي نقص المواهب العالمية وزيادة المنافسة تلقائياً إلى جعل الموارد البشرية وظيفة عالمية.
كما قال البروفيسور بوشان كابور (Bhushan Kapoor)، الأستاذ في قسم نظم المعلومات في جامعة ولاية كاليفورنيا (California State University)، في تأثير العولمة على إدارة الموارد البشرية: "ستكون فقط الشركات متعددة الجنسيات الراغبة في تكييف ممارساتها المتعلقة بالموارد البشرية مع ظروف سوق العمل العالمية المتغيرة، قادرة على جذب المواهب المناسبة وتطويرها والاحتفاظ بها، ومن المحتمل أن تنجح في المنافسة العالمية".
إنَّ عبارة "المواهب المناسبة" هامة للغاية؛ حيث يجب أن تصبح الموارد البشرية وظيفة عالمية ليس فقط لأنَّها توسع مجموعة المواهب من الناحية العملية؛ وإنَّما لأنَّها تتيح لنا تحقيق أكبر قدر من التنوع الذي يمتلك مزايا مالية محددة.
على سبيل المثال: يُظهر تحليل شركة ماكنزي (McKinsey) العالمي أنَّ الشركات التي تتضمن موظفين من جنسيات وأعراق متنوعة من المحتمل أن تتفوق مالياً على نظيراتها الأقل تنوعاً، وذلك بنسبة تتراوح بين (15٪- 35٪) على التوالي. مع وضع هذه الأرقام في الحسبان، فليس من المدهش أن يتنبأ تقرير التوجهات في لينكد إن (LinkedIn) بأنَّ التنوع في التوظيف سوف يصبح أكثر أهمية في مجال اكتساب المواهب خلال السنوات القليلة القادمة. يلعب النمو العالمي الذي يتضمن العمل بعيداً عن المكاتب دوراً هاماً بالنسبة إلى رواد الأعمال بقدر الشركات متعددة الجنسيات الدائمة. يحدث النمو دائماً سواءً كنت تعمل في مكتبك أم في منزلك.
20 أمراً قد لا تعرفها عن مايكروسوفت وبيل غيتس
كلمة تحذيرية:
سيكون من الخطأ استخدام أسلوب العمل عن بُعد قبل التَّأكُّد من إمكانية تطبيقه، لأنَّ هذه المزايا لا تكفي لتطبيق أسلوب العمل هذا. وأكبر مثال على ذلك شركة ياهو (Yahoo)، عندما واجهت انخفاضاً في الأرباح في عام 2012؛ حيث انخفض الربح التشغيلي للشركة بنسبة 30٪، حينها قررت المديرة التنفيذية ماريسا ماير (Marissa Mayer) أنَّ المسؤول عن ذلك الانخفاض كان يعمل عن بُعد.
في شهر شباط من عام 2013 منعت جميع الموظفين من العمل عن بُعد، وهي خطوة مثيرة للجدل تهدف إلى تحسين التعاون والابتكار. وعلى الرغم من التوقعات من كافة الجوانب، ذكرت جولي فورد تيمبيستا (Julie Ford-Tempesta)، مديرة الشؤون العقارية ومواقع العمل في ياهو، بعد ثمانية أشهر فقط: "ازدادت مشاركة الموظفين، وزادت معها عمليات إطلاق المنتجات بصورة كبيرة، وازدهرت مرونة الفِرق".
بصفة أساسية، لا ينبغي التقليل من أهمية التواصل في العالم الحقيقي، فقد وجدت الدراسات أنَّ حل المشكلات الحرجة يكون أكثر فاعليةً عندما يتواصل الموظفون مع بعضهم مباشرةً؛ حيث يُعد من الصعب إجراء نقاش هام بطريقة غير مباشرة أو عبر الإنترنت. وبينما تتبنى بعض الشركات مثل أوتوماتيك فكرة العمل عن بُعد وبدون مكاتب، يوجد بالتأكيد حجة مفادها أنَّ هذا الأمر يحد من اكتساب المواهب بقدر ما يفعله الإصرار على اتباع أساليب العمل التقليدية؛ حيث تشهد جنيفر درايدن (Jennifer Dryden)، نائبة الرئيس والرئيسة العالمية للعقارات في شركة نورثرن ترست (Northern Trust)، بأنَّه لا يرغب كل موظف في العمل دائماً من المنزل، كما تلاحظ درايدن أنَّه على الرغم من أنَّ شركة نورثرن ترست تقدم دعماً كبيراً لساعات العمل المرنة وأنماط العمل عن بُعد، إلا أنَّ عدداً صغيراً جداً من الموظفين يشارك بنسبة 100٪ في ذلك.
الخلاصة:
من المؤكد أنَّ فكرة العمل عن بُعد سوف تبقى قائمة، ويجب أن يكون رواد الأعمال الذين يطورون مشروعاً تجارياً على دراية بذلك، لكن يجب تحقيق التوازن بينه وبين العمل في المكتب. ربما تقدم شركة جيت هب خياراً جيداً لرواد الأعمال، وهو إمكانية العمل أينما يريدون؛ حيث يُستخدم هذا النموذج في كثير من الأحيان، سواءً من قبل الشركات الصغيرة أم الضخمة. يؤيد براين كولينز (Brian Collins)، مدير استراتيجيات مواقع العمل العالمية في شركة مايكروسوفت (Microsoft)، فكرة تحقيق التوازن بين أماكن العمل حيث يختار الموظفون المكان الذي يتناسب مع احتياجاتهم.
إذا كنت تفكر في العمل المرن كطريقة لخفض التكاليف وزيادة الإنتاجية فقط، فأنت لم تفهم المقصد ممَّا سبق. إذ لا يتعلق العمل عن بُعد بالتحكم في الإنتاجية؛ وإنَّما يتعلق بمنح الموظفين القدرة على التحكم. حيث ترتبط الإنتاجية بصورة أساسية بالمشاركة والأرباح والروح المعنوية. لذلك، يتعلق الأمر بمنح موظفيك القدرة على الاختيار وتلبية احتياجاتهم، وكما يقول كولينز: "يكون أرباب العمل الذين يمنحون الحرية لموظفيهم أعلى أداءً من غيرهم".